مع أطلالة كل صباح كان صوت داي صالح ( بائع اللبلبي) يتناهى الى مسمعي عبر نافذة بيتنا المطل على الزقاق ، وهويروّج لبضاعته ، ليعلن بدء نهار جديد من نهارات ذلك الزمن الجميل،كان الرجل في العقد السابع من العمر ، طويلاً نحيفاً ذا سحنة سمراء يجوب ازقة قلعة كركوك كل صباح، حاملا قصعته الخشبية التي تحوي اللبلبي( وهو الحمص المسلوق بالماء والمتبّل بالملح وبعض التوابل ) ينادي بصوته الجهوري: نوخوت... نوخوت ... بأداء مُنغّم وكلمات مُنمّقّة يشبه الغناء، وهو يحفّز المارة ويستميلهم لشراء بضاعته. وكانت نداءات الباعة المتجولين ايامذاك ، جزءاً من يوميات المدينة وحياة ابنائها بكل تفاصيلها الدقيقة، وهي أحد الأساليب التي يستخدمها الباعة لترويج سلعهم، وهو أسلوب قديم ضارب في جذور التاريخ، وتتنوع النداءات حسب اختصاص البائع المنادي بين بائع خضروات واخر حرفي واخر بائع جوال، وكان نداء منشد الضالة او المنادي الحكومي أو الدلال كما كانت تسميه العامة ، مالوفاً حتى الاربعينيات من القرن الفائت ، إذ كان المنادي الرسمي يجوب الأسواق والطرقات ، ليُعلن عن بيان هام ، أو شيء مفقود ، أو مولود جديد أطّل على الدنيا لصاحب منصب مرموق او ذي حظوة في المجتمع او الدولة . وفي السوق الكبير القلب التجاري لكركوك وقتئذ، كان الحال لا يختلف كثيراً عن حال ازقة وحواري القلعة ونداءات باعتها المتجولين ، فقد كان صخب الباعة يتعالى واصواتهم تُلعلع مع ضحى كل يوم ، حين كانت حركة المارة والمتبضعين تشتد في السوق،وكان من اشهر الباعة واوسعهم صيتأً ، البقال الشهير ( عواز) صاحب الصوت القوي والنبرة المتميزة وهو يُسّوق لبضاعته بكلام مسّجع، وعبارات تشبه الشعر المُقفى ،وكانت بضاعته تنفد قبل غيره من الباعة بفضل أسلوبه السهل الممتنع في الترويج والتشويق، ومن ابلغ نداءاته وهو يروّج للبطيخ ، قوله : بونو يه ن اوغلان دوغار .. يمييه ن .. اوزن بوغار )) ومعناه : التي تأكل منه تلد ذكرا .. والتي لا تذوقه تموت كمدا . في دعوة طريفة وذكية لاستثارة مشاعر النساء المتبضعات باستغلال حبهن لأنجاب الذكور.! وغير بعيد من بائع البطيخ ( عواز ) كان بائع الفواكه و الخضار وأشهر بقالي السوق ( عبد الله كّوكّه ) يشدو بصوته الرخيم ومن نغم ( البنجكّاه ) .. قره حسن ألماسي يوغازدان سيلر باصي .. اي ( تفاح قره حسن يجلو صدأ البلعوم) وقره حسن هي ناحية معروفة تقع في الطرف الجنوبي من كركوك وتشتهر ببساتينها الوارفة التي تلبي حاجة المدينة من الفواكه ومن بين اشهرها التفاح الأخضر. لهفي على تلك الأيام الحلوة من ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه الاسماع تستلذ النداءات البارعة والذكية للباعة ، قبل ان تغزونا مكبرات الصوت وزعيقها الذي يطرق الاذان طرقاً كلما مررنا اليوم بالأسواق ...!
|