لم يحظى مجنون في كركوك بالحب والاهتمام ، مثلما حظيت بهما المرأة المخبولة ( دللي سبيح ) في منصرمات من العقود الأربعة الماضية ، لقد عمرّت طويلاً قبل ان تصدمها سيارة ، فلزمت فراش المرض لحين من الوقت ، ثم عادت الى سابق عهدها في مزاولة طقوسها اليومية بالتجوال في أسواق المدينة ، تلتحف عبائتها السوداء ، وتنفث دخان سيكارتها التي كانت لا تفارق شفتيها ، وتمشي الهوينا وسط السوق غير ابهة بتعليقات المارة اللاذعة، حيناً، والاعجابية أحياناً أخرى ، واذا ما استفزها احدهم بقول جارح او بكلمة نابية، اجابته ( بعفطة) قوية وطويلة ، هي بمثابة جرس الاحتجاج والرفض، ثم تمضي غير مكترثة بالعواقب لانها تدرك ان الكل معجبون بها وان بعضهم يتقصد اثارتها كي ينتزع منها ( عفطتها ) الشهيرة التي غدت علامتها الفارقة التي تميزها عن باقي مجانين كركوك.! كان حضورها بين المارة والمتبضعين في السوق الكبير وسوق القورية ، يضفي على المكان مزيداً من السرور والنشوة ، فهي مادة للتفكهه ، ومستجلبة للنكتة الذكية التي أحياناً تتخطى حدود العيب والخجل ، فدللي سبيح تقول ما نشتهي قوله لكننا نخاف أن نقوله لاعتبارات مراعاة الزمان والمكان ، والعُرف والتقاليد ،فهذه الفئة من البشر التي صنفها الناس بخانة الجنون ، ليست لديهم خطوط حٌمر تحّدُ من سلوكياتهم ،فهم دون غيرهم يُباح لهم التطاول وسلاطة اللسان وإرتكاب المحظور من القول والفعل .! في ضحى كل يوم ، كانت دللي سبيح ،تذرع السوق بخطوات بطيئة ، وتتقصد المشي وسط السوق ، ربما بداع المباهاة والأعتزاز بالنفس ( فالمجنون يعتد بعقله ويعتبر الاخرين مجانين ) تقبض براحة يدها على ( لفة ) سيكائر محلية الصنع تسمى عندنا ب ( عربي جيغارسي ) او الجكاير المزّبن ، ولا تستعمل القداحة الا مع سيكارتها الأولى ثم تُشعل الواحدة بالاخرى ، الى أن ينفذ ما عندها ، لتعود تأخذ لفة أخرى من غيرأن تدفع الثمن ، فهي الاثيرة عند اهل السوق والمحبوبة الى نفوسهم ، تأخذ ما تشاء دون أن يمنعها أحد ، واذا ما أحست بالتعب القت بنفسها عند أقرب واجهة محل لتأخذ قسطاً من الراحة وأحياناً تغط بقيلولة بسيطة غير مبالية بالمارة ، لانها تعلم أنها أنثى، وان للانثى حرمتها عند اهل كركوك ، وأن الانوثة في نظرهم ضعف ، والجنون ضعف اخر ، واذا أجتمع الضعفان ، كانت الحرمة أكثر .! وقيل أن بعض الأماكن تقسو على المجنون أكثر من غيرها ، وأن بعض المدن تعاقب مجانينها بضراوة ، فتُجنن العاقلَ ، وتزيد المجنون جنوناً، ولكن من حُسن حظنا نحن اهل كركوك ، أننا نعتز بمجانيننا ، ونعتبرهم جزءاً من المشاهد اليومية التي لا مناص من رؤيتها كل يوم ،واذا ما مات أحدهم ، نحزن لموته ، ونستذكر جنونه ، كما نستذكر اليوم ، المرحومة دللي سبيح ، ونستذكر عفطتها الشهيرة التي كانت تُطلقها كلما رأت شيئاً لا يشبه شيئا ، المقولة التي تحولت على لسان احد الممثلين الى لازمة كلامية يطلقها الكثير حين يرون عدم توافق الأشياء فيقولون ( شي ما يشبه شي ) .!
|