صباح احد أيام منتصف تموز 1959 . أيقظتني والدتي من نوم عميق كنت احتاجه لسهري على غير عادة الصغار في الليلة الماضية لاستمع إلى ما هيأه التركمان للاحتفال بالذكرى الأولى للثورة, أقواس نصر وزينة في الشوارع وأمام محال مخازن و مقاهي التركمان . " قم يا عباس ..... سيذهب أخوالك للاحتفال مرتدين زيهم التركماني الجميل". قفزت من سريري الذي كان مجرد ( مرتبة – دوشك صغير ) على الأرض وتوجهت فورا الى النافذة لأطل على قوس النصر الذي أقامه التركمان في شارع الاستقلال ( أطلس ) . بعد فطور ( خبز ولبن وشاي ) على عجل , صعدت الى سطح الدار وكان الأعلى في المحلة. كان الشارع مكتظا بالمارة و المحتفلين, و الجميع بالأزياء التركمانية والملابس الجديدة كيوم عيد , كنت مستمتعا بالمنظر و نسيت أن اقضم (الخيار) الذي وضعته والدتي بين يدي. و فجأة سمعت جلبة في الدار ... وأصوات أقدام تدك الأرض بقوة مسرعة و راكضة وكلام بصوت عال لم افهمه. نزلت مسرعا وعيناي على وسعهما مندهشا من الأصوات المتداخلة التي لم تستوعبها دنيا صغير في الخامسة من عمره. ما أن نزلت السلالم, توجهت لا إراديا, الى الغرفة التي كانت لوالدتي, و جمدني منظر لن يغادر ذاكرتي الا بفراق روحي عن جسدي: والدتي ممدة على الأرض. دموعها تختلط بصياح لا افهمه ودمها على الارض. نزيف ودم وصياح. ماذا يفعل طفل بعمر خمس سنوات في هذه الحالة؟ . رميت بجسدي عليها وبدأت ابكي و اصرخ مثلها ... وانتزعوني من حضنها نزعا. تكومت على نفسي و شقيقي الأكبر يتوسل إليها أن تكف فهو سيذهب ليبحث عن أخوالي . هرول اخي الى خارج الدار ,وقفزت الى النافذة المطلة على الشارع لأرى ابن خالتي يسحب اخي الى داخل الدار ... والاثنان يقسمان : والله ...إن دايي (خالي) عزالدين ودايي يوسف وصلا الى البيت يسلام ولم يتمكن منهما الجناة الذين عرفت فيما بعد بأنهم قاموا بمجزرة للتركمان ستبقى على مدى التاريخ وصمة في جبينهم. قالت والدتي التي امتزج دمها بدموعها "الحمد لله , وماذا عن الشهداء ما ذنبهم , هل لأننا تركمان؟ ...ربي انتقم من الظالم" . قفزت مرة أخرى الى حضنها لتشدني اليها بقوة وكانت تلك أولى دروس القومية التي تعلمتها منك يا أمي . وتوالت الدروس.
|