مِن المعروفِ أنَ المكفوفين لديهم القدرة علىٰ تعويض نَقص البصرِ لديهم بسمعٍ متطور، ولمسٍ متميز ، وقوة ذاكرة وتركيز ، أو بقدراتٍ أخرىٰ، والاعتقاد السائد هو أن تَحسُّن الحواس في جسم الأنسان المكفوف ، ما هو إلا نتيجة لسلوك متعلَّم، ففقد الرؤية يدفعه إلى التركيزِ على المنبّهات السمعية، وكيفية استخدامها بشكل أكثر فعالية. وتُظهر دراسةٌ أميركية جديدة أن المكفوفينَ منذ الولادة، يستخدمونَ منطقة ًدماغيةً مسؤولة عن النظرِ لتحسين حاستيْ السمعِ واللمسِ عندهم . وتُعتبر حاسةُ السمع من أنشط ِالحواس عند الكفيف، فهو يعتمد عليها في إدراكه لِما حوله وكذلك في الحصولِ على معلوماتٍ عن الأشياء التي توجد في بيئته، كما أنه يستطيعُ تكوين صورةٍ ذهنية عن الأحداث والمواقفِ المختلفة،بالأعتماد على حاسة السمع، في معرفةِ المسافة والاتجاه والمواقف . وقد لمستُ ذلك شخصياً ، بسبب ملازمتي الطويلة ، وصحبتي المتواصلة للمكفوفين من خلالي ترددي علىٰ مدرسةِ تحفيظ القران التي كانت قائمة بجامع آل قيردار بكركوك ، وكانت المدرسةُ وقتذاك ( في أواخر السبعينيات ) تضّم العشرات مِن طلاب العلم وحفظة القران ، ويتولىٰ التدريس فيها خيرة أساتذة التحفيظ ، وكانَ كلّ واحدٍ منهم يتولىٰ تعليم عددٍ من الطلاب ، وكانَ الحافظ الكبير المرحوم نورالدين بقال اوغلو ، هو من يتولىٰ تدريسي ، وقد حفظتُ على يديهِ اجزاءاً من القرآن ، وكان رحِمهُ الله أعجوبةً في الذكاءِ والفطنة وقوة الذاكرة وسرعة البديهة ،وكان إذا سَمِعَ صوت شخصٍ عرف اوصافهَ مِن طولٍ وقصرٍ وبياضٍ وسوادٍ وحُسنٍ وقُبح، وعرف عُمرَه وكمْ له مِن السنين ، وإذا تكّلم مع شخصٍ فلن ينسىٰ صوتَه أبداً ، وإذا لمس يد رجلٍ كانَ قد فارقه مُدة مِن الزمن عَرفه في الحال ، كُنتُ أمسكُ يده ذاتَ يومٍ ونحنُ نسيرُ في السوق ، بعد إنقضاء فترة التدريس ، إذ أقبل الفنانُ المطرب ( هابه ) نحونا ومَدّ يده ليُصافح المّلا دون أن يتكلم ، فقلت للملا رحمه الله : هل تعرفُ صاحبَ هذه اليد .؟ فأجابَ على الفورِ مُبتسماً : وهل يخفىٰ بلبلُ كركوك والمعروف أنّ عامة أهل كركوك ، كانوا يُطلقونَ علىٰ المطرب الراحل ( هابه ) لقبَ بُلبل كركوك ، حباً له وعرفاناً لفنّه وصوتِه. ومِنْ طريفِ ما ذكرهُ لي المرحومُ الحافظ الملا نورالدين ،أنه حين كانَ صغيراً يتلقىٰ دروسَ تعليم القران الكريم عند أستاذه العلاّمة بيوك ملا محمد ، كانَ يلعب مع زملائهِ المكفوفين في أوقاتِ الراحة لعبة ( گوز يومّما ) التي تسمى بالعربية ( الختّيلة أو الغمّيضة ) وهِي لعبةٌ خاصة بالأطفال الاصحياءِ ذوي الابصار وتعتمد بالدرجة الأساس على حِدّة البصر وقوة الحَدس والذاكرة . وهي لعبةٌ قديمة ومعروفة ، وقد وُردت الاشارةُ اليها في كتبِ التراث ، ويلعبها الصبيان إذ ينقسمونَ الى فريقين ، فريقٌ يختبيء ، وفريقٌ يبحث عن المختبئين . !
|